فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن جزي:

سورة نوح عليه السلام:
{أنْ أنذِرْ} و{أنِ اعبدوا} يحتمل أن تكون أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن أنذر وبأن اعبدوا والأول أظهر {عذابٌ ألِيمٌ} يحتمل أن يريد عذاب الآخرة أو الغرق الذي أصابهم {يغْفِرْ لكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} من هنا للتبعيض أي يغفر لكم ما فعلتم من الذنوب قبل أن تسلموا؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله، ولم يضمن أن يغفر لهم ما بعد إسلامهم، لأن ذلك في مشيئة الله تعالى، وقيل: إن من هنا زائدة ذلك وباطل لأن من لا تزاد عنه سيبويه إلا في غير الواجب. وقيل: هي لبيان الجنس، وقيل: لابتداء الغاية، وهذان قولان ضعيفان في المعنى، والأول هو الصحيح لأن التبعيض فيه متجه {ويُؤخِّرْكُمْ إلى أجلٍ مُّسمّى} ظاهر هذا يقتضي أنهم إن فعلوا ما أمروا به أخروا إلى أجل مسمى؛ وإن لم يفعلوا لم يؤخروا، وذلك يقتضي القول بالأجلين. وهو مذهب المعتزلة، وعلى هذا حملها الزمخشري، وأما على مذهب أهل السنة، فهي من المشكلات، وتأولها ابن عطية فقال: ليس للمعتزلة في الآية مجال لأن المعنى أن نوحا عليه الصلاة والسلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل؟ ولا قال لهم: إنكم تؤخرون عن أن أجل قد حان. لكن قد سبق في الأزل إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير أو ممن قضى له بالكفر والمعالجة. وكان نوحا عليه السلام قال لهم: آمنوا يظهر في الوجود أنكم ممن قضى له بالإيمان والتأخير. وإن بقيتم على كفركم يظهر في الوجود أنكم ممن قضى عليه بالكفر والمعالجة، فكان الاحتمال الذي يقتضيه ظاهر الآية إنما هو فيما يبرزه الغيب من حالهم؛ إذ يمكن أن يبرز إما الإيمان والتأخير، وإما الكفر والمعالجة، وأما عند الله فالحال الذي يكون منهم معلوم مقدر محتوم، وأجلهم كذلك معلوم قدر محتوم.
{إِنّ أجل الله إِذا جاء لا يُؤخّرُ} هذا يقتضي أن الأجل محتوم كما قال تعالى: {إِذا جاء أجلُهُمْ فلا يسْتأْخِرُون ساعة ولا يسْتقْدِمُون} [يونس: 49] وفي هذا حجة لأهل السنة وتقوية للتأويل الذي ذكرنا، وفيه أيضا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلين، ولما كان كذلك قال الزمخشري: إن ظاهر مناقض لما قبله من الوعد بالتأخير إن آمنوا، وتأول ذلك على مقتضى مذهبه بأن الأجل الذي لا يؤخر هو الأجل الثاني. وذلك أن قوم نوح قضى الله أنهم إن آمنوا عمرهم الله مثلا ألف عام، وإن لم يؤمنوا عمرهم تسعمائة عام فالألف عام هي التي تؤخر إذا جاءت والتسعمائة عام هي التي وعدوا بالتأخير عنها إلى الألف عام إن آمنوا.
{دعوْتُهُمْ لِتغْفِر لهُمْ} أي دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم، فذكر المغفرة التي هي سبب عن الإيمان؛ ليظهر قبح إعراضهم عنه؛ فإنهم أعرضوا عن سعادتهم {جعلوا أصابِعهُمْ في آذانِهِمْ} فعلوا ذلك لئلا يسمعوا كلامه، فيحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة أو يكون عبارة عن إفراط إعراضهم حتى كأنهم فعلوا ذلك {واستغشوا ثِيابهُمْ} أي جعلوها غشاوة عليهم لئلا يسمعوا كلامه، أو لئلا يراهم، ويحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة، أو يكون عبارة عن إعراضهم {وأصرُّواْ} أي داوموا على كفرهم {دعوْتُهُمْ جِهارا} إعراب جهارا مصدر من المعنى كقولك: قعد القرفصاء، أو صفة لمصدر محذوف تقديره: دعا جهارا، أو مصدر في موضع الحال أي مجاهرا {ثُمّ إني أعْلنْتُ لهُمْ وأسْررْتُ لهُمْ إِسْرارا} ذكر أولا أنه دعاهم بالليل والنهار، ثم ذكر أنه دعاهم جهارا، ثم ذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار، وهذه غاية الجد في النصيحة وتبليغ الرسالة صلى الله عليهم وسلم، قال ابن عطية: الجهاد دعاؤهم في المحافل ومواضع اجتماعهم، والإسرار دعاء كل واحد على حدته.
{يُرْسِلِ السماء عليْكُمْ مِّدْرارا} مفعول من الدرّ وهو كثرة الماء، وفي الآية دليل على أن الاستغفار يوجب نزول الأمطار، ولذلك خرج عمر بن الخطاب إلى الاستسقاء فلم يزد على أستغفر ثم انصرف، فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: والله لقد استسقيت أبلغ الاستسقاء، ثم نزل المطر، وشكا رجل إلى الحسن الجدب فقال له: استغفر الله.
{مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا} فيه أربع تأويلات: أحدها أن الوقار بمعنى التوقير والكرامة، فالمعنى: ما لكم لا ترجون أن يوقركم الله في دار ثوابه. قال ذلك الزمخشري. وقوله: (لله) على هذا بيان للموقر، ولو تأخر لكان صفة لوقارا. الثاني أن الوقار بمعنى التؤدة والتثبت، والمعنى: ما لكم لا ترجون لله وقارا، متثبتين حتى تتمكنوا من النظر بوقاركم وقوله: (لله) على هذا مفعول دخلت عليه اللام اللام كقولك: ضربت لزيد، وإعراب {وقارا} على هذا مصدر في موضع الحال. الثالث أن الرجاء هنا بمعنى الخوف، والوقار بمعنى العظمة والسطان، فالمعنى: ما لكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه ولله على هذا صفة للوقار في المعنى، الرابع: أن الرجاء بمعنى الخوف، والوقار بمعنى الاستقرار، من قولك: وقر بالمكان إذا استقر فيه، والمعنى: ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار إما في الجنة أو النار {وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} أي طورا بعد طور، يعني أن الإنسان كان نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى سائر أحواله، وقيل: الأطوار الأنواع المختلفة، فالمعنى أن الناس على أنواع في ألوانهم وأخلاقهم وألسنتهم وغير ذلك {طِباقا} ذكر في [الملك: 3] {وجعل القمر فِيهِنّ نُورا} القمر إنما هو في السماء الدنيا، وساغ أن يقول فيهن لما كان في إحداهن فهو في الجميع كقولك: فلان في الأندلس، إذا كان في بعضها، وجعل القمر نورا والشمس سراجا، لأن ضوء السراج أقوى من النور، فإن السراج هو الذي يضيء فيبصر به والنور قد يكون أقل من ذلك.
{والله أنبتكُمْ مِّن الأرض نباتا} هذا عبارة عن إنشائهم من تراب الأرض، ونباتا مصدر على غير المصدر أو يكون تقديره: أنبتكم فنبتم إنباتا، ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال {ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيها} يعني بالبعث من القبور {والله جعل لكُمُ الأرض بِساطا} شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها، وأخذ بعضهم في لفظ البساط أن الأرض بسيطة غير كروية، خلافا لما ذهب إليه أهل التعديل، وفي ذلك نظر {سُبُلا فِجاجا} ذكر في [الأنبياء: 31] {واتبعوا من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلاّ خسارا} يعني اتبعوا أغنيائهم وكبراءهم، وقرئ {ولدُه} بفتحتين و{وُلْد} بضم الواو وسكون اللام وهما بمعنى واحد {ومكرُواْ مكْرا كُبّارا} الكبّار بالتشديد أبلغ من الكبار بالتخفيف، والكبار بالتخفيف أبلغ من الكبير.
{وقالواْ لا تذرُنّ آلِهتكُمْ} أي وصى بعضهم بعضا بذلك {ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا} هذه أسماء أصنامهم، كان قوم نوح يعبدونها، وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا، فلما ماتوا صوّرهم أهل ذلك العصر من حجارة، وقالوا: ننظر إليها لنتذكر أعمالهم الصالحة، فهلك ذلك الجيل وكثر تعظيمهم من بعدهم لتلك الصور، حتى عبدوها من دون الله، ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها؛ وقيل: بل الأسماء فقط، إلى قبائل العرب، فكان ودّا لكلب بدومة الجندل، وكان سواع لهذيل، وكان يغوث لمراد، وكان يعوق لهمدان، وكان نسرا لذي الكلام من حمير. وقرئ {ودا} بفتح الواو وضمها ووُدّا وهما لغتان {وقدْ أضلُّواْ كثِيرا} الضمير للرؤساء من قوم نوح، والمعنى أضلوا كثيرا من أتباعهم، وهذا من كلام نوح عليه السلام، وكذلك {ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ ضلالا} من كلامه، وهو دعاء عليهم. وقال الزمخشري: إنه معطوف على قوله: {رّبِّ إِنّهُمْ عصوْنِي} [نوح: 21] والتقدير: قال: رب إنهم عصوني، وقال: لا تزد الظالمين إلا ضلالا. {مِّمّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ} هذا من كلام الله إخبارا عن أمرهم، وما زائدة للتأكيد وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضا ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار، إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر الكفر وسائر المعاصي {فأُدْخِلُواْ نارا} يعني جهنم. وعبّر عن ذلك بالفعل الماضي لأن الأمر محقق، وقيل: أراد عرضهم على النار وعبر عنه بالإدخال.
{وقال نُوحٌ رّبِّ لا تذرْ على الأرض مِن الكافرين ديّارا} ديّارا من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما في الدار ديار، أي ما فيها أحد، ووزنه فيعال وكان أصله ديوار ثم قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء، وليس وزنه فعال لأنه لو كان كذلك لقيل: دوار، لأنه مشتق من الدور أو من الدار، وروي أن نوحا عليه السلام لم يدع على قومه بهذا الدعاء إلا بعد أن يئس من إيمانهم، وبعد أن أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم.
{رّبِّ اغفر لِي ولِوالِديّ} يؤخذ من هذا أن سنة الدعاء أن يقدم الإنسان الدعاء لنفسه على الدعاء لغيره، وكان والدا نوح عليه السلام مؤمنين قال ابن عباس: لم يكن لنوح أب كافر ما بينه وبين آدم عليهما السلام واسم والد نوح لمك بن متوشلخ وأمه شمخا بيت أنوش، حكاه الزمخشري {ولِمن دخل بيْتِي مُؤْمِنا} قيل: بيته المسجد، وقيل: السفينة. وقيل: شريعته، سماها بيتا استعارة وهذا بعيد، وقيل: داره وهذا أرجح لأنه الحقيقة {ولِلْمُؤْمِنِين والمؤمنات} هذا دعاء بالمغفرة لكل مؤمن ومؤمنة على العموم، وفيه دليل على جواز ذلك خلافا لمن قال من المتأخرين: إنه لا يجوز الدعاء بالمغفرة، وفيه دليل على جواز ذلك خلافا لمن قال من المتأخرين: إنه لا يجوز الدعاء بالمغفرة لجميع المؤمنين على العموم، وهذا خطأ وتضييق لرحمة الله الواسعة، قال بعض العلماء: إن الإله الذي استجاب لنوح عليه السلام فأغرق بدعوته جميع أهل الأرض الكفار حقيق أن يستجيب له فيرحم يدعوته جميع المؤمنين والمؤمنات {تبارا} أي هلاكا والله أعلم. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة نوح عليه السلام:
مكية.
وآيها تسع أو ثمان وعشرون آية.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{إِنّا أرْسلْنا نُوحا إلى قوْمِهِ أنْ أنذِرْ} أي بأن أي بالإِنذار، أو بأن قلنا له {أُنذِر}، ويجوز أن تكون مفسرة لتضمن الإِرسال معنى القول، وقرئ بغير {أن} على إرادة القول. {قوْمك مِن قبْلِ أن يأْتِيهُمْ عذابٌ ألِيمٌ} عذاب الآخرة أو الطوفان.
{قال يا قوْم إِنّى لكُمْ نذِيرٌ مُّبِينٌ أنِ اعبدوا الله واتقوه وأطِيعُونِ} مر في (الشعراء) نظيره وفي {أن} يحتمل الوجهان.
{يغْفِرْ لكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} يغفر لكم بعض ذنوبكم وهو ما سبق فإن الإِسلام يجبه فلا يؤاخذكم به في الآخرة {ويُؤخّرْكُمْ إلى أجلٍ مُّسمّى} هو أقصى ما قُدِّر لكم بشرط الإِيمان والطاعة. {إِنّ أجل الله} إن الأجل الذي قدره. {إِذا جاء} على الوجه المقدر به آجلا وقيل إذا جاء الأجل الأطول. {لا يُؤخّرُ} فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير. {لوْ كُنتُمْ تعْلمُون} لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك، وفيه أنهم لانهماكهم في حب الحياة كأنهم شاكون في الموت.
{قال ربّ إِنّى دعوْتُ قوْمِى ليْلا ونهارا} أي دائما.
{فلمْ يزِدْهُمْ دُعائِى إِلاّ فِرارا} عن الإِيمان والطاعة، وإسناد الزيادة إلى الدعاء على السببية كقوله: {فزادتْهُمْ إيمانا} {وإِنّى كُلّما دعوْتُهُمْ} إلى الإِيمان. {لِتغْفِر لهُمْ} بسببه. {جعلُواْ أصابعهم في ءاذانهم} سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة. {واستغشوا ثِيابهُمْ} تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي من فرط كراهة دعوتي أو لئلا أعرفهم فأدعوهم، والتعبير بصيغة الطلب للمبالغة. {وأصرُّواْ} وأكبوا على الكفر والمعاصي مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه وأقبل عليها. {واستكبروا} عن اتباعي. {استكبارا} عظيما.
{ثُمّ إِنّى دعوْتُهُمْ جهارا ثُمّ إِنّى أعْلنْتُ لهُمْ وأسْررْتُ لهُمْ إِسْرارا} أي دعوتهم مرة بعد أخرى وكرة بعد أولى على أي وجه أمكنني، و{ثُمّ} لتفاوت الوجوه فإن الجهار أغلظ من الإِسرار والجمع بينهما أغلظ من الإِفراد لتراخي بعضها عن بعض، و{جهارا} نصب على المصدر لأنه أحد نوعي الدعاء، أو صفة مصدر محذوف بمعنى دعاء {جهارا} أي مجاهرا به أو الحال فيكون بمعنى مجاهرا.
{فقُلْتُ استغفروا ربّكُمْ} بالتوبة عن الكفر. {إِنّهُ كان غفّارا} للتائبين وكأنهم لما أمرهم بالعبادة قالوا: إن كنا على حق فلا نتركه وإن كنا على باطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا من عصيناه، فأمرهم بما يجب معاصيهم ويجلب إليهم المنح ولذلك وعدهم عليه ما هو أوقع في قلوبهم. وقيل لما طالت دعوتهم وتمادى إصرارهم حبس الله عنهم القطر أربعين سنة، وأعقم أرحام نسائهم فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه بقوله: {يُرْسِلِ السماء عليْكُمْ مُّدْرارا ويُمْدِدْكُمْ بأموال وبنِين ويجْعل لّكُمْ جنات ويجْعل لّكُمْ أنْهارا} ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء. و{السماء} تحتمل المظلة والسحاب، والمدرار كثير الدرور ويستوي في هذا البناء المذكر والمؤنث، والمراد بال {جنات} البساتين.
{مّا لكُمْ لا ترْجُون لِلّهِ وقارا} لا تأملون له توقيرا أي تعظيما لمن عبده وأطاعه فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمها إياكم، و{لِلّهِ} بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة ل {وقارا}، أو لا تعتقدون له عظمة فتخافوا عصيانه، وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة.
{وقدْ خلقكُمْ أطْوارا} حال مقررة للإنكار من حيث إنها موجبة للرجاء فإنه خلقهم {أطْوارا} أي تارات، إذ خلقهم أولا عناصر، ثم مركبات تغذي الإِنسان، ثم أخلاطا، ثم نطفا، ثم علقا، ثم مضغا، ثم عظاما ولحوما، ثم أنشأهم خلقا آخر، فإنه يدل على أنه يمكن أن يعيدهم تارة أخرى فيعظمهم بالثواب وعلى أنه تعالى عظيم القدرة تام الحكمة، ثم أتبع ذلك ما يؤيده من آيات الآفاق فقال: {ألمْ تروْاْ كيْف خلق الله سبْع سموات طِباقا وجعل القمر فِيهِنّ نُورا} أي في السموات وهو في السماء الدنيا وإنما نسب إليهن لما بينهن من الملابسة. {وجعل الشمس سِراجا} مثلها به لأنها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض كما يزيلها السراج عما حوله.
{والله أنبتكُمْ مّن الأرض نباتا} أنشأكم منها فاستعير الإِنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض، وأصله {أنبتكُمْ مّن الأرض} إنباتا فنبتم نباتا، فاختصره اكتفاء بالدلالة الالتزامية.
{ثُمّ يُعِيدُكُمْ فِيها} مقبورين. {ويُخْرِجُكُمْ إِخْراجا} بالحشر، وأكده بالمصدر كما أكد به الأول دلالة على أن الإعادة محققة كالابداء، وأنها تكون لا محالة.
{والله جعل لكُمُ الأرض بِساطا}. تتقلبون عليها.
{لّتسْلُكُواْ مِنْها سُبُلا فِجاجا} واسعة جمع فج ومن لتضمن الفعل معنى الاتخاذ.
{قال نُوحٌ رّبّ إِنّهُمْ عصونى} فيما أمرتهم به. {واتبعوا من لّمْ يزِدْهُ مالُهُ وولدُهُ إِلاّ خسارا} واتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة، وفيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال والأولاد وأدت بهم إلى الخسار، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي والبصريان {وولدُهُ} بالضم والسكون على أنه لغة كالحزن والحزن أو جمع كالأسد.
{ومكرُواْ} عطف على {لّمْ يزِدْهُ} والضمير لمن وجمعه للمعنى. {مكْرا كُبّارا} كبيرا في الغاية فإنه أبلغ من كبار وهو من كبير، وذلك احتيالهم في الدين وتحريش الناس على أذى نوح عليه السلام.
{وقالواْ لا تذرُنّ ءالِهتكُمْ} أي عبادتها. {ولا تذرُنّ ودّا ولا سُواعا ولا يغُوث ويعُوق ونسْرا} {ولا تذرُنّ} هؤلاء خصوصا، قيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا صوروا تبركا بهم، فلما طال الزمان عبدوا. وقد انتقلت إلى العرب فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير. وقرأ نافع {وُدّا} بالضم وقرئ {يغوثا} و{يعوقا} للتناسب، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة.
{وقدْ أضلُّواْ كثِيرا} الضمير للرؤساء أو للأصنام كقوله: {إِنّهُنّ أضْللْن كثِيرا} {ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ ضلالا} عطف على {رّبّ إِنّهُمْ عصونى}، ولعل المطلوب هو الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم لا في أمر دينهم، أو الضياع والهلاك كقوله: {إِنّ المجرمين في ضلال وسُعُرٍ} {مّمّا خطيئاتهم} من أجل خطيئاتهم، و(ما) مزيدة للتأكيد والتفخيم، وقرأ أبو عمرو {مما خطاياهم}. {أُغْرِقُواْ} بالطوفان. {فأُدْخِلُواْ نارا} المراد عذاب القبر أو عذاب الآخرة، والتعقيب لعدم الاعتداد بما بين الإِغراق والإِدخال، أو لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع، وتنكير النار للتعظيم أو لأن المراد نوع من النيران. {فلمْ يجِدُواْ لهُمْ مّن دُونِ الله أنصارا} تعريض لهم باتخاذ آلهة من دون الله لا تقدر على نصرهم.
{وقال نُوحٌ رّبّ لا تذرْ على الأرض مِن الكافرين ديّارا} أي أحدا وهو مما يستعمل في النفي العام فيعال من الدار، أو الدور وأصله ديوار ففعل به ما بأصل سيد الأفعال وإلا لكان دوارا.
{إِنّك إِن تذرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبادك ولا يلِدُواْ إِلاّ فاجِرا كفّارا} قال ذلك لما جربهم واستقرى أحوالهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف شيمهم وطباعهم.
{رّبّ اغفر لِى ولوالدى} لملك بن متوشلخ وشمخا بنت أنوش وكانا مؤمنين. {ولِمن دخل بيْتِى} منزلي أو مسجدي أو سفينتي. {مُؤْمِنا ولِلْمُؤْمِنِين والمؤمنات} إلى يوم القيامة. {ولا تزِدِ الظالمين إِلاّ تبارا} هلاكا.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح». اهـ.